إعادة إعمار غزة- صمود من الركام، إرادة لا تنكسر‎

المؤلف: د. محمد إبراهيم المدهون08.22.2025
إعادة إعمار غزة- صمود من الركام، إرادة لا تنكسر‎

مع انبلاج فجر يوم جديد، يطل من بين أتون غزة المحترقة، شعاع الشمس خجولًا، يخترق كثافة الدخان المتصاعد والغبار الكثيف والنيران المشتعلة، حاملاً معه ما كنا نأمله بريق أمل يضيء دياجير محنتنا المتفاقمة. لكن وراء هذا النور الضعيف، يظل الألم القاسي، والحصار الخانق، والدمار الشامل، والقتل المستمر بلا رحمة.

أمام ناظري، تتمركز أعداد غفيرة من العناصر الإجرامية، تحاصر الحي بأكمله، بينما تنتشر الآليات العسكرية الضخمة في الأبنية المجاورة التي تحولت إلى مواقع مراقبة وتخريب، في ظل قصف متواصل وعنيف، يهطل علينا بوابل من القذائف المدمرة التي تسوي كل ما يحيط بنا بالأرض.
تجمّعنا معًا في أماكن ضيقة ومحصورة، نرتل الأدعية والأذكار، ونجاهد لكبح جماح الخوف والرعب الذي يتصاعد مع كل انفجار يهز أركان عمارة، ليسحق تحت أنقاضها أحلامنا وطموحاتنا الوردية.

ولم يقتصر التدمير الماحق على تدمير الحجر فحسب، بل تجاوزه ليطال إحراق المباني بشكل كامل وتحويل المساجد والمدارس إلى معتقلات للتعذيب والتحقيق الوحشي، بعد طرد النازحين منها بالقتل والتشريد القسري، مما زاد من إحساسنا بالعزلة والجور.
ومع تصاعد وتيرة القصف والاشتباكات العنيفة، تحول منزلنا إلى ركام متناثر، وأصبح ثكنة عسكرية تتعرض للقصف العشوائي من جميع الجهات.

نعيش لحظات عصيبة مليئة بالرعب الدائم وسط ظلام حالك نتيجة انقطاع التيار الكهربائي ومنع دخول الوقود، بالإضافة إلى نقص حاد في المواد الغذائية الأساسية، ضمن محاولة يائسة لإبادة "الحيوانات البشرية" كما صرح كبيرهم الذي علّمهم فنون السحر.

من بين شقوق الأنقاض والخراب، رأيت -أنا وأولادي الذين استشهدوا لاحقًا- نساءً وأطفالًا أبرياء يخرجون حاملين الرايات البيضاء، بينما كان الرجال، وأحيانًا النساء، يواجهون مصير الإعدام الميداني أو الاعتقال التعسفي. تبعنا خطاهم بحذر شديد، على الرغم من الخطر المحدق بنا، في لحظات نادرة هطل فيها المطر بغزارة، مما أعاق طائرات الاستطلاع عن رصد كل تحرك.

ومع اتساع نطاق التدمير الممنهج والمنظم، تحوّل النزوح إلى حالة مستمرة ودائمة. وعندما رجعنا إلى ما كان يومًا شقتنا في عمارة سكنية، كان المشهد مروعًا وكابوسيًا: إبادة شاملة، وركام متراكم، وآثار دمار وكأنها اجتثّت بأعتى أمواج تسونامي.

غرقنا جميعًا في بحر متلاطم الأمواج من الألم والهمّ، وسط صمت عالمي مريب، وغياب تام لأي موقف حقيقي وفعال، حتى بدا وكأن هذه المحنة الأشد قسوة في تاريخنا لن تجد طريقًا إلى النهاية أبدًا.
وانطلاقًا من موقع المسؤولية، خضنا مرارًا وتكرارًا تجربة إعادة إعمار غزة بعد كل عدوان صهيوني غاشم، حيث واجهتنا عقبة كبرى تمثلت في منع الاحتلال الصهيوني دخول الإسمنت ومواد البناء الأساسية الضرورية.

دفعنا ذلك إلى البحث عن حلول بديلة ومبتكرة، فكان الركام المتناثر في كل مكان فرصة مؤلمة ولكنها كانت بداية جديدة. قمنا بإعادة تدوير أنقاض المنازل المدمرة وتحويلها إلى حجارة بناء صلبة باستخدام آلات بسيطة وجهد يدوي شاق، كما عدنا إلى استخدام البناء الطيني التقليدي (الذي لم يصمد طويلًا مع الأمطار الغزيرة) في بعض المناطق، مستلهمين من تراثنا المعماري العريق أدوات مقاومة صامدة في وجه الحصار والعدوان.

كانت هذه التجربة قاسية ومريرة ولا توفر حلًّا شاملاً وكاملاً، لكنها أرست دعائم نهج إعمار بديل لا يعتمد على شروط الاحتلال المجحفة، بل على إرادة الحياة المتجددة. ظهرت بذلك بدائل محلية وإبداعية تعتمد على مواد بناء محلية ومعاد تدويرها، واستراتيجيات بناء مستدامة تقلل الاعتماد على الموارد المحظورة.

وشملت هذه البدائل تقنيات صديقة للبيئة، ومشاريع منخفضة التكلفة تلبي الاحتياجات الإسكانية والمجتمعية الملحة، معززة بذلك روح المقاومة والابتكار على الرغم من كل العراقيل والتحديات.

لم تكن معركة الإعمار أقل ضراوة وقسوة من الحرب ذاتها، فهي لم تكن مجرد إعادة بناء لما تهدم من منازل ومرافق، بل مواجهة شاملة لتدمير البنية التحتية الحيوية والنسيج الاجتماعي المتماسك، وسط حصار خانق يمنع دخول مواد البناء، وتوترات سياسية داخلية تعيق التنسيق الفعال وتعطل المبادرات الخلاقة.

وعلى الرغم من هذه المعوقات الهائلة، شهدنا جهودًا محلية ودولية حثيثة ومثابرة لترميم المنازل المتضررة، ومشاريع عربية ساهمت في تخفيف العبء بشكل جزئي، وساهمت أيضًا في خلق فرص عمل وإنعاش محدود للاقتصاد المنهك.

ويبقى الأثر الأعمق للإعمار هو أن كل جدار يُعاد بناؤه، وكل مدرسة تُفتتح، هو تأكيد قاطع على حقنا الراسخ في الحياة ورفضنا القاطع للفناء. فأصبح الإعمار فعل مقاومة يتجاوز الحجر إلى إرادة شعبية صلبة وتخطيط مستدام يُصر على الانبعاث من بين الركام.

لكن مع الأسف الشديد، تحوّل ملف إعمار غزة في نهاية المطاف إلى ساحة صراع نفوذ محمومة بين أطراف عربية ودولية مختلفة، والسلطة الفلسطينية، ليس بدافع إنساني خالص، بل للاستحواذ على عوائد مالية ضخمة ومكاسب سياسية محتملة.

هذا التنافس الشرس أفضى إلى تعقيد الإجراءات البيروقراطية، وفرض اشتراطات سياسية تعجيزية، وتباطؤ ملحوظ في التنفيذ، مما ضاعف معاناة الناس وعمّق فجوة الثقة بين السكان والمؤسسات الرسمية والدولية.

الدمار اليوم في غزة ليس ككل ما سبقه من دمار؛ إنها إبادة شبه كاملة للحجر والبشر، حيث تجاوزت كمية المتفجرات المستخدمة قنابل نووية، مع تدمير ممنهج يشجع المقاولين الصهاينة على هدم المنازل مقابل مكافآت مالية مغرية، مما أوجد حالة تنافسية شرسة في التخريب تصل إلى حد الإبادة العمرانية الكاملة.

وقد وثّقت التقارير الأممية المحايدة ومنظمات حقوق الإنسان الموثوقة حجم الدمار الهائل الذي ناهز 75% من بنيان غزة، مؤكدين أن إعادة الإعمار واجب قانوني يقع على عاتق الاحتلال باعتباره المسؤول الأول بموجب القانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة.

ولا بد أن تتم عملية الإعمار خارج إطار الرقابة أو الاشتراطات السياسية التي يفرضها الاحتلال الغاشم، لضمان تحقيق العدالة والسرعة والكرامة للفلسطينيين الذين واجهوا حرب إبادة ببسالة وصبر.

في محرقة غزة المستمرة، الإعمار هو أكثر بكثير من مجرد بناء منازل أو مرافق؛ إنه صمام أمان حيوي يحفظ وجود الفلسطينيين على أرضهم ويحول دون تفريغهم القسري. فكل منزل يُعاد بناؤه وكل مدرسة تُصلح إنما يعني استمرار الحياة وتعزيز الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، في ظل سياسة الاحتلال اللئيمة التي تستهدف التهجير القسري عبر التدمير الممنهج والضغط الاقتصادي المستمر.

يُعتبر الإعمار وسيلة عملية وفعالة لمواجهة هذا المخطط الخبيث، إذ يحد من موجات النزوح القسري ويعزز فرص البقاء والصمود. كما أن بناء المؤسسات التعليمية والصحية يعزز ثقة السكان بمستقبلهم ويدفعهم لرفض التهجير القسري بكل الوسائل الممكنة.

في هذا الإطار، يتحول الإعمار إلى استراتيجية مقاومة حيوية تثبت حق الفلسطينيين الأصيل في العيش بكرامة على أرضهم.

يمثل إعمار غزة تحديًا متجددًا يعكس عمق المأساة الإنسانية والسياسية المتفاقمة؛ فالتدمير لا يطال فقط البنية التحتية الصلبة بل يمتدّ ليشمل روح الجماعة ومقومات الصمود، حيث أُلحِقت أضرار جسيمة بالمنازل والمستشفيات والمدارس وشبكات المياه والكهرباء.

ومع كل جولة من العدوان، تتفاقم الكارثة بشكل مطرد مع دمار غير مسبوق وشمولي، مخلفة وراءها كارثة إنسانية واسعة النطاق تمسّ ملايين الفلسطينيين، نصفهم من الأطفال الأبرياء.

هذه المعركة ليست هندسية أو إنشائية فحسب، بل هي صراع متعدد الأبعاد: سياسي واقتصادي وإنساني ومجتمعي، يقوم على مقاومة التهجير والتدمير من خلال إرادة البناء والتجدد. لقد أصبح الإعمار رمزًا للصمود وتعبيرًا عن الإرادة الجماعية في مواجهة الإبادة البطيئة.

وعلى الرغم من التحديات الجسام، مطلوب أن تظهر غزة مرونة كبيرة بتبني استراتيجيات متنوعة وشاملة، تشمل مساعدات إنسانية عاجلة، ومبادرات محلية مبتكرة، ومشاريع بأموال عربية، وغيرها.

ومع ذلك، هناك عقبات هيكلية عميقة ستعيق عملية الإعمار، أبرزها استمرار الحصار الجائر المتوقع تشديده والذي يقيّد دخول مواد البناء ويشل الحركة التجارية بشكل كامل، إلى جانب الانقسام السياسي الفلسطيني المرير الذي يعرقل التنسيق الموحد. وعلى الصعيد الدولي، فإن التمويل المتاح محدود للغاية ولا يرقى إلى مستوى حجم الكارثة، مما يجعل الاستجابة دون المستوى المطلوب.

في ظل هذه الظروف العصيبة، من الضروري فتح آفاق الإبداع نحو إعمار مستدام، من خلال استخدام تقنيات صديقة للبيئة ومواد بديلة تقلل الاعتماد على الموارد المحظورة. هذه التحولات سيكون لها انعكاسات إيجابية على الواقع الاقتصادي والاجتماعي من خلال خلق فرص عمل وتحسين البيئة المعيشية.

إن إعمار غزة ليس مجرد استجابة إنسانية نبيلة، بل هو معركة قانونية وأخلاقية ووجودية تتطلب شراكة دولية جريئة تضع حدًا للتقاعس وتكف يد الاحتلال عن تعطيل الإعمار.

لا يمكن النظر إلى هذا الملف كإجراء تقني معزول، بل كقضية إنسانية نضالية تستدعي حشدًا فلسطينيًا وعربيًا ودوليًا لتحرير الإعمار من الحسابات السياسية الضيقة، ومنحه بُعده الحقيقي كحق لشعب يستحق الحياة والكرامة.

إن إعمار غزة هو فعل مقاومة وتجديد لعقد الحياة وسط الموت، ورسالة وطنية تتحدى محاولات السحق والتغييب. وهو مشروع جامع يتطلب إرادة فلسطينية موحدة، وإدارة مهنية شفافة، وتكاملاً بين المؤسسات الرسمية والمجتمع المدني والدول الصديقة، على قاعدة العدالة والكرامة الوطنية. ونجاحه مرهون بتكثيف الضغط الدولي على الاحتلال وتحميله المسؤولية القانونية والمالية عن جرائمه.

هذه الوثيقة تمثل استراتيجية شاملة ومفصلة لإعادة إعمار غزة، ترتكز على مبادئ العدالة والكرامة، وتحميل الاحتلال المسؤولية الكاملة، وتدعو إلى شراكة دولية فاعلة تعيد الحياة إلى غزة وتؤسس لمرحلة جديدة من التعافي والبناء، تليق بتضحيات أهلها، وتحافظ على جذوة البقاء مشتعلة في وجه آلة الإبادة.

في قلب هذه الأرض التي عانت الأمرين، وعلى أنقاض مدينة صمدت رغم المحن والكوارث، ينبثق نور الأمل من بين ركام الدمار. غزة، المدينة التي لم تنكسر رغم كل العواصف والرياح العاتية، تقف اليوم على مفترق طرق بين الموت والبقاء، بين الخراب والنهضة. طريق إعمار غزة ليس مجرد مشروع بناء حجارة وأسمنت، بل ملحمة تاريخية تُكتب فيها فصول جديدة من الصمود والعزيمة، وتحكي قصة وطن لا يقبل أن يُمحى من الذاكرة.

هذا الطريق يتطلب أكثر من الإرادة الصلبة؛ يحتاج إلى رؤية متكاملة تجمع بين العدالة والتنمية، بين التحدي والتخطيط، بين الحقوق والقوة. إنه مسار يقوم على الحقوق المشروعة والأحلام الكبيرة لشعب يستحق الحياة والكرامة.

من خلال هذه الرؤية الطموحة، نرسم خارطة طريق مفصلة لإحياء غزة، ليس فقط كمدينة تُبنى من جديد، بل كرمز حي للمقاومة وأيقونة للبقاء في وجه محاولات الطمس والتهجير.

معًا، سننطلق على هذا الطريق الوعر، مدفوعين بإيمان راسخ بأن إعادة إعمار غزة هي انتصار للإنسانية وتجسيد لإرادة لا تنكسر مهما طال الظلام.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة